كلنا أيها السادة نعيش في عالم افتراضي وهمي غير حقيقي ... نعيش ونتعايش معه ونوهم أنفسنا أنه حقيقي ... عالم إما نصنعه نحن أو يصنعه لنا الآخرون ... نصنعه نحن لنداري ضعفنا وإفلاسنا ونعيش الدور ولكن قلوبنا غير مرتاحة ... ويصنعه لنا الآخرون لكي يخدعونا بأننا فعلا نعيش الحقيقة بكل حذافيرها ... نسعد بها بعض الوقت ولكن في سريرة أنفسنا يمزقنا تناقض كبير في داخلنا وفي كينونتنا الحقيقية ... ويكون مردودنا الحقيقي صفر في عالم الأمم والمجتمعات ... لست أدري إذا كان هذا الوضع الذي نحن عليه كان طول الوقت أو أنه بدأ في عام 1952 .
على الأقل أنه ابتداء من هذه السنة ونحن نعيش الوهم بكل تجلياته ... نعيش في العالم الافتراضي ... نسعد وكأننا أقوى الأمم ولكن يمزقنا الشك ثم يعتصرنا الألم عندما نواجه بالحقيقة التي لابد لها أن تظهر في وقت ما لأنها هي الحقيقة وغيرها وهم ... كمن يخرج من الظلام إلى النور فجأة فلا يرى ... وسوف نجد أن كلمة ( وكأننا ) تصاحبنا طول الوقت ... هذه الكلمة اللعينة والتي لانستطيع إخراجها من حياتنا إلا بدفع الثمن مكابدة ودموع ودم ... وكأننا نعيش وكأننا نتزوج وكأننا نتعلم وكأننا ننجب وكأننا ننتخب وكأننا نقول ما نريد وكأننا كل شيء وأي شيء ... سهله ومغرية ولكن عاقبتها خطيرة ... فلا شيء يحدث في هذا العالم بدون طاقة فنحن أبناء الطاقة نعيش بها وعندما تختفي من حياتنا تختفي الحياة نفسها .
فقد بدأت حياتنا في هذه السنة بشيك وهمي افتراضي على بياض وبدون رصيد .... أعطاه الشعب المصري لضباط يوليو ومن ساعتها تعودنا على ذلك ... وبعدها فتح ضباط يوليو مسرحا وارتدوا ملابسا مدنية ... ملابس الدور في المسرحية... ثم بدأوا تجهيز المسرح بالديكور والممثلين الثانويين ... أقاموا ديكورا كبيرا يملأ كل خلفية المسرح ولونوه بكل الألوان الزاهية و المتناقضة في نفس الوقت ... وكل المقصود هو الإبهار أليس هذا هو هدف كل الفنون ... الإبهار ... وصنعوا له أبوابا يدخل ويخرج منها الممثلون يضحكون ويتحادثون ويدخنون ويتشاجرون ويجعجعون بكلام كبير وهمي ولكن شكله جميل وتلتقط لهم الصور جماعة وفرادى ولكن خلف هذه الواجهة الديكورية المبهرة لايوجد شيء ... فهذه هي طبيعة الديكورات ... ثم كتبوا عليه إسما تغير مع تغير فصول المسرحية ففي الفصل الأول كتبوا عليه هيئة التحرير وفي الفصل الثاني الاتحاد القومي وفي الفصل الثالث كتبوا الاتحاد الاشتراكي وفي الفصل الأخير الحزب الوطني ... وعلى الجنب اليمين من المسرح صنعوا ديكورا آخر أبيض في أبيض وله أبواب يخرج ويدخل الممثلون منها ... يضحكون ويتناقشون ويرقصون ويتشاجرون ويتشاتمون ويلبسون بدلا وجلاليب وكتبوا عليه بالخط العريض مجلس الشعب هكذا أراد المخرج ... ثم جاء دور المجاميع دور الكومبارس ليكملوا الصورة ... ففي البداية أجلسوهم في مقاعد المتفرجين على طريقة المسرح التفاعلي حيث يتشارك الممثلون والجمهور الحوارات والضحكات والتصفيق والأسئلة المكتوبة سلفا ...
إلى أن اشتكى الكومبارس أن البطل أصبح عجوز والدور هو دور شاب فلابد من تغييره ... ولا بد أن نضع نظاما لتغييره بين الحين والحين حتى يجيء علينا الدور ... لأننا نريد أن نقوم بدور البطل نحن الآخرون في يوم ما ... ولا نظل كمبارس هكذا مدى الحياة ... وبعد إلحاح أصعدوهم على خشبة المسرح حيث أعدوا صناديق يصعد الكومبارس ويضعون فيها أوراقا ثم يحملون هذه الصناديق إلى الكواليس ومع ذلك يظل بطل المسرحية هو هو دون تغيير ... إلى أن ظهر شيء إسمه الإنترنيت .
وهو لوحة كبيرة جدا في صالة المتفرجين وتمتد خارج المسرح حيث من الممكن أن يراها الناس في الشارع والشوارع المجاورة ويدخلوا فيها ... لوحة عجيبة غريبة تكتب عليها ماتريد ولايمكن محوه بالماء ولا بالنار ... وترى فيها العجائب من كل البلاد ... حيث يدخل فيها الناس فيختفون ولا يمكن رؤيتهم بالعين المجردة وهناك يكتبون رأيهم في المسرحية والأبطال دون أن تطولهم يد إدارة المسرح بسوء ... وقد كتبوا وكتبوا وكتبوا وتخيلوا واقترحوا وشطبوا على صورأبطال المسرحية ورسموا لهم ذيول وقرون وآذان طويلة ووضعوا مكانهم أبطال آخرين رسموا لهم أجنحة بيضاء وطيروهم في الهواء وفوق السحاب ورسموا ديكورات أخرى من مدرسة الواقعية بدلا من ديكورات السوريالزم الموجودة على المسرح ... حتى أنهم بدأوا في إعادة إخراج المسرحية من جديد وبشكل جديد موديرن حداثي حيث لابطل نهائي ووحيد للمسرحية .
ولكنهم ملوا البقاء في هذه اللوحة العجيبة وكأنك في محطة فضاء لقد هربوا من حياة افتراضية خارجها إلى حياة افتراضية داخلها فأصابهم الملل بشكل كبير فخرجوا عازمين على هدم المسرح وإعتاق الكومبارس من حياتهم المملة الكئيبة لكي يتحول كل منهم إلى بطل حقيقي يكتب حواره بنفسه ويحدد دوره بنفسه ففي عالم الحقيقة كل شيء ممكن ولكن بحساب ... وذلك حتى ينتهي موسم الشيكات على بياض ... الوهمية ... والتي بدون رصيد ... والتي تمنح طواعية دون أن يطلبها الآخرون .
الحرية هي في الأصل نور يضيء العقل
0 اذهب للاعلى of the page up there ^