غسيل المنتقبات ..
بقلم : محمود توفيق حسين
دعانا إلى زيارته في محلِّ سكنه الجديد، فقد غيَّر منزله بسبب حكمٍ قضائيٍّ لصالح مطلَّقته بخصوص النَّفقة، وسكن في حجرة فوق السَّطح في حيٍّ عشوائيٍّ.
عندما وصلْنا تحت بيته، واتَّصلنا على رقم جوَّاله الجديد أيضًا، نزل لنا وقد بانت عليه الهموم، وانطفأ من عينيه بريقُ الثِّقة بالنَّفس والتَّفاؤل، أربع سنواتٍ لم أرَه فيها غيَّرتْ فيه الكثير، أخذنا من يده إلى مقهًى بشيءٍ قليلٍ من الخجل؛ من كونه لا يقدر على أن يضيِّفنا في بيته؛ فصاحبُ البيت حرَّج عليه استقبال الضَّيف باعتباره أعزب، تقبَّلْنا الأمر ببساطةٍ، وإن كنت في أعماقي قد أُصبتُ بخيبة أملٍ؛ كنت أمني نفسي بأن أتركه يسمر مع الأصدقاء؛ لأنام ساعةً عنده.
لما وصلنا للمقهى النَّائي المتواضعِ الذي يقع على ضفةِ ترعةٍ آسنةٍ، وقريب منه حقلان صغيران حاصرتهما بيوتٌ متواضعةٌ، وعششٌ سكنيَّةٌ، حكى لنا كيف انقلبتْ عليه زوجُه الجميلة التي حسده عليها الأقاربُ والأصحاب يوم زفافهما، كيف انقلبتْ عليه مع انقلاب أحواله المعيشيَّة، وعن زواجه الذي انهار، وحجم المشاكل العائليَّة والخصومة، وكيف أمسى مطاردًا من الفاتنة التي منحها كلَّ شيءٍ.
بعد وقتٍ غيَّرنا اتِّجاه دفَّة الحديث؛ حتى نُخرِجه قليلاً من أحزانه، أدرْنا أحاديث المثقفين والمتثاقفين، وبدأنا بالنَّظر في حجم المقالات التي انطلقتْ مرَّةً واحدةً في الصُّحف تهاجم النِّقاب والمنتقبات، والسَّلفيَّة والوهَّابيَّة، إلى آخر ما يمضغون، ثم خرجنا من هذا إلى حديثٍ عن قضايا النَّشر وضوابطه، حتى غاب الأصدقاء عمَّا حولهم وعمَّن حولهم، وقد كان حولنا روَّادٌ مُريبون غلاظٌ، وكنتُ طبعًا أخفض صوتي ونحن ندير حديثنا؛ حتى لا يستغرب مَن حولنا ما نقول، ويشعروا بعداوةٍ تجاه وجودنا مثلما يشعر النَّاس تجاه ما لا يعرفون ومن لا يعرفون، بينما صاحبنا المطلِّق قد انطلق على سجيَّته في الكلام، لم أكن أخفض صوتي فقط من أجل ما تقدَّم؛ ولكني أيضًا كنت مجهَدًا وفي حاجةٍ للنَّوم، لم أنم منذ الأمس إلاَّ ثلاث ساعاتٍ؛ لذا بدتْ لي الأشياء في هذه الأمسيَّة مائعةً ومهتزَّةً وضبابيَّةً كأنها بين الحقيقية والخيال.
كلام المثقَّفين أحيانًا ما يستجلب النَّوم، أشعة القمر على صفحة المياه السَّوداء، وعلى جلد ذلك الحصان الأدهم، النافق الملقى بين الهيش[1]، وماء التُّرعة كان أيضًا يستجلب النَّوم، وقرقرة الأرجيلات التي حولنا، والحديث الخافت بين ثلَّةٍ مشبوهةٍ قريبًا من موقد الفحم، والوجوه العابسة، حتى القلق نفسه أحيانًا ما يستدعي النوم، وصورة زوجة صاحبي المائلة المميلة، التي ارتدتْ فستانًا مكشوفًا في حفل عرسها، كانت تستجلب النَّوم، والحزن على أحبابٍ ما تربت يداهم كان باعثًا على النَّوم.
شعرت بأني نمت قليلاً، لجزءٍ من الدَّقيقة، عندما استدرتُ لأطلب من السَّاقي فنجان قهوةٍ، فرأيتُ ذلك الصَّارم الجاهل الملامح، الجالس خلفنا متحفِّزًا، يعضُّ على طرف شفته، ويهزُّ ركبته، ويطرق عليها بأصابعه، إنه يريد أن يدخل طرفًا في حوارنا، فاستدرتُ قلِقًا وأعطيته ظهري، مما ضاعف إحساسي بالرَّغبة في النَّوم، فنمتُ ذلك الجزء من الدَّقيقة، لا أعرف كيف كانت فترةً كافيةً، وأيضًا نمتُ مرَّةً أخرى لجزءٍ من دقيقةٍ عندما هبَّ النَّسيم في هذه الليلة الحارَّة وحمل معه شيئًا خفيفًا من رائحة الجيفة المنتنة، وقد اختلط بمزيجٍ من رائحة الحقل.
رأيتُ في هذه السِّنة من النَّوم كلابًا ضالةً تنهش بطن الحصان المنتفخ، فأخذ يتقلَّب كما يتقلَّب النَّائم، ثمَّ اضطرب ونشط، وقام وانطلق يمخر[2] في مياه التُّرعة بعنفٍ وعافيةٍ وهو يجرُّ أمعاءه، ففتحتُ عيني مندهشًا، ومتجنِّبًا لرشاش الماء، غير أني وجدت الحصان في استسلامٍ تامٍّ لأنياب الكلاب.
بعد قليلٍ، قام الأصحاب ليأتوا بعشاءٍ من مطعمٍ بعيدٍ، وقد تركوني أنتظرهم وقد ثقلتُ أمامهم على الكرسيِّ، وحذَّرني صاحبي المطلّق من قبل أن يمضي: لا تتحرَّك حتى نعود لك؛ فهذا مقهى مشبوهٌ إلى حدٍّ ما، وقد يظنُّ الجالسون أنك مرشد مباحث أو ما شابه، إن قمتَ فجأةً، أو أخذت تجيء وتذهب، سلَّمك الله.
ولِمَ أتيتَ بنا إلى هنا؟!
ومضوا بالسيَّارة، وفجأةً، وقد رغبتُ في دقائق من النَّوم، وقبل أن أرمي برأسي على الطَّاولة أمامي، إذ بيدٍ صلبةٍ جلفةٍ تهوي على كتفي:
يا أستاذ، أنتم كنتم تتحدَّثون عن قضايا النَّشر.
نعم نعم.
أنا عندي موضوع يخصُّني أنا، له صلة بقضايا النَّشر، فهل تسمع مني؟
تقمَّصت دور الذي فوجئ مفاجأةً سارَّةً، كأني أريد أن أتلقَّف ما سيلقي به الرَّجل: حقًّا؟! قل ما عندكَ.
فقام حاملاً كرسيَّه في يده، وعلى وجهه السُّرور والتأهُّب والعزم، وجلس أمامي، ومال على وجهي مبتسمًا: أنا حرامي غسيلٍ، وتبتُ منذ أيَّامٍ قليلةٍ، نشر أم لا؟
نعم نعم، نشر غسيلٍ.
نعم، ولكن لا تقلق يا أفندي؛ أنا تبتُ.
مقبولة إن شاء الله.
وناديت السَّاقي ليحضر له ما يشاء؛ مجاملةً مني لرجلٍ لا يؤمَن غضبُه، وحفاوةً برجلٍ يقول: إنه تاب.
وتكلَّم بصوتٍ عالٍ كأنه يخاطب بعيدًا، ودونما حرجٍ:
مهنتنا انقرضتْ، أو أوشكتْ على الانقراض.
تمنيت أن لو قال: مهنتي، ولا يجمع؛ ما دام أنه عالي الصَّوت، ثمَّ عقَّبت على كلامه بصوتٍ خفيضٍ جدًّا، كأني ألفت انتباهه لكي يخفض صوته، وقلت - وبعينين زائغتين، وبنفسٍ مجهدةٍ، وبنفَسٍ متعبٍ -: هذا صحيحٌ، حرامي الغسيل أمسى ذكرى من ذكريات عالم السَّرقة، مهنته فيها مخاطرةٌُ عاليةٌ، كما أن مرْدودها ضعيفٌ كذلك، فهي - صراحةً - تحتلُّ المرتبة الأخيرة من ناحية النَّظرة إليها في عالم السَّرقة.
صحيح، أحسنت!
صراحةً: يُنظر إليها باحتقارٍ في عالم السَّرقة، هي وسرقة الأحذية من عند الجوامع.
تمام، سيادتك متابع.
وقد أحسنتَ إذ تركتَها، وتركتَ عالم الجريمة كلَّه.
فمن أجل كل ما قلتَ؛ تركتُ هذا العمل إلى الأبد، وكذلك من أجل ما سأحكي لك.
تفضَّل.
إذا عُرِف حرامي الغسيل في منطقة عمله، فإنه لا يأمن ألا يُستدعَى مع كلِّ حادث سرقة غسيلٍ يقع في دائرة نشاطه، فعَلَها أو لم يفعلها.
مؤكَّد.
وحدث أنني فكَّرتُ في أن أفْضل ما أقوم به - وإلاَّ اضطررتُ لترك محلِّ سكني - هو أن أسرق ما لا أظنُّ فيهم رغبةً في إبلاغ الشَّرطة؛ أي: من سيبتلعون الخسارة ويصمتون، ويفضلون هذا على الذَّهاب لقسم الشُّرطة للإبلاغ.
هذا يتطلَّب نوعيةً خاصَّةً من الزَّبائن.
بل من الملابس، قبالة محطة المترو القريبة من حيِّنا بيت (عالمةٍ) معروفةٍ.
عالمة! في أيِّ مجالٍ؟
يا رجل، عالمة؛ أي: رئيسة الرَّاقصات التي تدربهنَّ، وتشغِّلهنَّ، وتقاول على أعمالهنَّ.
مفهوم مفهوم، فأنت قررت إذًا...
أن أهبط على السَّطح بجنودي - وما أدراك ما جنودي؟! - فيلملمون "بذلات" الرقص كلها، وأبيعها؛ باعتبار أن (العالمة) ستتردَّد ألف مرَّةٍ قبل الذَّهاب لتحرير محضرٍ بسرقة "بذلات" الرَّقص، فيتلقَّاها الضبَّاط والمساعدون والأمناء بالهزء والاستخفاف.
وهل فعلت؟
ولكنك لم تسألني عن جنودي.
مساعدوك، أليس كذلك؟
إنها ثلاثة قرودٍ درَّبتها على سرقة الغسيل، وهكذا كان يسرق أبي وجدِّي وجدُّ جدِّي، أصعد بها للسَّطح، ثمَّ أتركها وأنزل، فيفرد كلٌّ منها ملاءةً، ويبدأ في جمع الغسيل، ثم يصرُّ الملاءة ويحملها على ظهره، وتنزل القرود لتجدني بعيدًا قليلاً، أنتظرهم ومعي العربة، فأغطِّي القرود والصرَّات جميعًا، وينطلق بنا الحصان.
شيء مدهش!
بل هي مدربةٌ على أن ترمي الغسيل عن ظهورها، وتمضي بعيدًا دون أن تأتي إلى العربة، إذا ما طاردها النَّاس.
عجيب!
وإنه لمنظرٌ يخيَّل إليك منه أنك قد أصابك في رأسك شيءٌ، وأنت تنظر إليها وهي تحمل في جنح الليل ما تحمل وتمضي مسرعةً.
حسنًا، وهل فعلت؟ هل هبطت على سطح العالمة؟ قل لي: ما شعورك وأنت...
احتدَّ: ولا شعور ولا بطِّيخ، دعني أكمل.
تفضَّل.
فعلت، ويا ليتني ما فعلت، ويبدو أنني لا أنزل النَّاس منازلهم، لم يمرَّ إلاَّ ليلةٌ ونهارٌ، ثمَّ قبضوا عليَّ قبل أن أتحرَّك للتَّصرف في "بذلات" الرَّقص التي كنت أتوقَّع منها مبلغًا كبيرًا، اقتادني المرشدون من بيتي للقسم، وأدخلوني بالصَّفع إلى مكتب المأمور، كانت المرأة هناك، بلباسٍ أنيقٍ، وبعينين جريئتين، وساقٍ على ساقٍ، هذا هو يا سيِّدة الكلِّ، وقفتُ أمامها مطأطأ الرَّأس، عيني على الأرض، والدَّم ينزف من أنفي، وأشبعتني شتمًا ولعنًا وزرايةً بمهنتي، مثل: (يا حرامي الغسيل، يا معفِّن).
وعليه؛ فقد قررتَ ترك المجال المهين.
كانت هزةً عنيفةً، قرَّبتني من النِّهاية، فقد كنت أظنُّ أنني وإيَّاها في الهمِّ والعار سويًّا، مكثتُ فترةً وأنا في حيرةٍ لا أعرف كيف أتَّخذ قرارًا.
المهمُّ: بعد أن قال الشَّيخ الأكبر - أكبر عمامةٍ في البلد - ما قاله عن النِّقاب، وما فعله بالتلميذة الصَّغيرة، وما قاله لها مستهزئًا بها وبما تضع على وجهها، وحظره ارتداء النِّقاب داخل المعاهد التَّعليميَّة، قلتُ لنفسي: هؤلاء هنَّ الغرباء، صاحبات الأجنحة المكسورة، هنَّ اللائي لن يستطعن الذَّهاب إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن سرقة نقابهنَّ، بعد ما قاله الشَّيخ، صار على هؤلاء أن يَقبَلن الأذى وسرقة غسيلهنَّ ويسكتن.
أي شيطانٍ أغواكَ؟!
لم يكن في الأمر عبقريةٌ مني، كلاَّ، ولا من قراءتي للجرائد؛ فقد اختمرتِ الفكرة في ذهني بعد أن ركبتُ مواصلةً عامَّةً، وشاهدتُ رجلاً وقورًا وعلى وجهه علامة السُّجود يقول بصوتٍ خفيضٍ وقد قطب جبينه؛ لرؤية امرأةٍ منتقبة قد ركبتِ الحافلة: (جاكم البلاء في مناظركم).
طبعًا هذا بعد ما قاله الشَّيخ؟
بعدها بأيامٍ قليلةٍ.
وعليه - وللأسف - فقد قرَّرتَ سرقة غسيل المنتقبات بقرودك الغريبة؟
بان على وجهه الخزي:
نعم (وسكت قليلاً ثمَّ أكمل): هناك بيتٌ لعائلةٍ سُنيَّةٍ[3]، كلُّ نسائها منتقبات، أسفله مسجدٌ صغيرٌ، يعلوه مقرأةٌ.
وشرب كوبًا من الماء، ثمَّ أكمل:
هبطتُ على السَّطح، وأشرت للقرود بعنفٍ تجاه العباءات والبراقع السَّوداء والقفَّازات، فنشطتْ وهاجتْ، حتى إنني خفتُ منها، ونزلتُ إلى العربة منتظرًا، وقلبي كان يدقُّ بعنفٍ؛ خوفًا من الله، بعد قليلٍ هبطتْ إلى الشَّارع تحمل الصرَّات، وجرتْ إلى ناحيتي، وقفزتْ على العربة وهي تقهقه قهقهة الفائزين، ولما فردت عليها ملاءةً من الخيش هي والصرَّات، أخذتْ تقرص بعضها بعضًا ضاحكةً تحت الخيش، وتقهقه، وتخاطب بعضها بعضًا ثمَّ تضحك، كأنها تتندَّر من حادثةٍ ظريفةٍ.
سامحك الله و...
ولم يسمع ما قلتُ له؛ بل لم أسمع أنا بقيَّة كلامي ولم أعرفه؛ فقد مرَّتْ عربة رشِّ المبيدات بضجيجها، وغمرت بدخانها كلَّ الحاضرين، وخلفها صبيانٌ يطاردونها فرحين، وغاب الكلُّ عن الكلِّ، ولم أعد أرى محدِّثي، وتخيَّلته بوجهٍ غير وجهه، أخذ يتكثَّف شيئًا فشيئًا، وجهٌ بشوش معمَّم، حتى صار هو! قال لي مِن خلف الدُّخان بصوتٍ متحشرجٍ:
القرود، القرود المعلَّمة التي حرَّضتها على مهاجمة ملابس المنتقبات، لا أستطيع أن أوقفها، هل تسمعني؟ كلما تمشَّيتُ بواحدةٍ منها في الطَّريق في الرِّياضة اليوميَّة، ومرَّت بنا امرأةٌ منتقبةٌ، هاجتْ، وقهقهتْ، وحاولتْ بكلِّ شراسةٍ أن تفلت مني؛ لتنزع عن التي تمشي في أمانٍ نقابَها، لم يحدث هذا حتى الآن، وقد يحدث.
كأنما تلبَّستها الشياطين.
ماذا؟
أقول: كأنما تلبَّستها الشياطين.
والقرود لم تهدأ بعد، ويبدو أنها لن تهدأ ثانيةً، كأني قد حضَّرتُ عفريتًا لا أستطيع أن أصرفه، فقل لي: كيف أصرفه؟
أخذتُ أسعل بشدَّةٍ حتى دمعتْ عيناي، وتقطَّعتْ أنفاسي، حتى هدأتُ قليلاً، وفتحتُ فمي عن آخره؛ أعوض ما فاتني من نفَسٍ وأنا أتأوَّه، وبدأ الدُّخان ينقشع، وأخذت العمامة تختفي، وأخذ الرجل يستخلص وجهه من الوجه الذي تلبَّسه، حتى استعاده كله.
لكن الأمر لا يتوقَّف على قرودك الثَّلاثة.
ــــــــــــــــــــ
[1] الهيش: نبات ينمو على شواطئ الترع والمصارف.
[2] يمخر: يشق الماء بصوت.
[3] عائلة سنية: عائلة ملتزمة، يطلق العوام في مصر على الملتزمين: السُّنِّيين