خيوط الفجر
بقلم : أ. محمد بن علي البدوي
جسر قديم ممتد بين ( جوارزدي ) و ( سربنيتشا ) أعمدة إنارة تحتضر على جانبي الجسر ، الشفق يؤذن باقتراب الليل ، والظلام يبدأ زحفه الصامت على الكون .. نهر صغير يجري تحت الجسر ، رائحة الجثث الملقاة في النهر تزكم الأنوف ، وقع أقدام مترهلة ، شبح قادم ، أنفاس متتابعة، كان القادم شاحب الوجه، رث الثياب ، حافي القدمين ، قادماً من أتون الحرب المستعرة ، يتمتم :
- اللعنة عليهم.. قتله.. كلاب شوارع ضالة !!
توقف أخيراً ، وهدأت أنفاسه المضطربة ، كان " محمد لاتيش " يلقي النظرة الأخيرة على أنقاض قريته المحتضرة بعد أن اجتاحتها علوج الصرب ، يعانق بناظريه أطلال القرية المنكوبة ، الدموع تنهمر من عينيه بغزارة ، وقد تسمر على ذلك الجسر المتهالك يسترجع شريط ذكرياته المرة :
" القرية الصغيرة الوادعة القابعة خلف التلال البعيدة ، الطرق الضيقة ، الأبنية المتلاصقة القابعة خلف التلال الخضراء والمروج الغنية بالعشب الجبلي ، الرجال في الحقول ، والنساء في البيوت وَ " محمد لاتيش " إمام المسجد ، الشاب المحبوب الذي عاد مؤخراً من الأزهر وعين إماماً لمسجد القرية ، الجميع هنا يحترمونه ويقدرونه فهو الشيخ " لاتيش " مدرس القرآن في المدرسة الوحيدة في القرية ، وشيخ حلقات القرآن في المسجد ، وهو أب لطفله الصغير " علي " وقد أسماه تيمناً باسم رئيس الجمهورية ، فالجميع هنا يحب الرئيس ، ويلقبونه بالشيخ ، ويدينون له بالولاء والطاعة .. سحب السعادة تعبر سماء القرية ، والشمس الساطعة تمنحهم دفء الإخوة"
الدموع تنهمر من عينيه بغزارة ، وهو يتقدم على الجسر خطوات ، والليل تشق سواده،
أصوات هدير الرصاص ، ودوي المدافع تختلطان ببقايا الذكريات المرة التي تتجمع في ذاكرته ، و تنداح في مخيلته ، كما ينداح حجر الرحى ، وهو يحدق في بقايا القرية ، يستعيد الذكريات :
" سماء القرية ملبدة بالغيوم ، حبلى بالقلق المجهول ، ريح عاتيه تنذر بالعاصفة القادمة ، والأخبار تفيد : أن العاصمة سراييفو محاصرة ، فالحرب التي بدأت منذ شهور ، أصبحت حديث القرية ، و" محمد لاتيش " يدعو الناس إلى التماسك وتوحيد الجهود ، ويدعوهم إلى الجهاد والدفاع عن البلاد ، ويرغبهم في الموت من أجل الله ، وهو بنفسه يشرف على حملات التطوع ، ويقيم مراكز التدريب ، ويردد آيات الأنفال .. وفي ذات يوم !! وقبل غروب الشمس ، خلف الجبال الصامتة ، عندما كان الناس في طريق العودة إلى منازلهم ، بدأت هدايا الصرب تنهال على القرية من كل مكان ، والمدافع تنفث سمها الملتهب على الجميع ، فالصرب قد هاجموا القرية ، أخذت الأشلاء تتناثر، والدماء تسيل تروي أرض القرية ، وتنبت شجرة الكرامة ، والرجال الصامدون يقاومون وقوافل الشهداء تتحرك ، لكن الطوفان كان قوياً فاجتاح القرية ......
رياح خفيفة تلعب الجسر ، وصور المأساة لم تفارق ذاكرته بعد .. زوجته وابنه عندما انهدم عليهما البيت .. أطفال القرية وهم يستنجدون .. الرجال وهم صرعى مجندلون على ثرى القرية ، كل ذلك كان " لاتيش " يشاهده من تحت أنقاض المسجد بعد أن انهدم عليه وهو يخطب في القوم ويحدوهم إلى الله ، وظن الجميع أن " لاتيش " قد مات ....
الشمس ترسم لوحة العودة " ولاتيش " يرقب طلوع الفجر باهتمام بالغ ، وابتسامة ترتسم على ثغره برغم فصول المأساة ، بزغ الفجر أخيراً ، كان " لاتيش " قد توارى بعيداً لكن صوته لم يزل مسموعاً ، وصداه يملأ الأرجاء :
صبراً ( سراييفو ) إن بعد الليـل فجـراً
صبراً ( سراييفو ) إن بعد العسر يسراً.