مملكتي .!
بقلم : نور الجندلي
نظَرَتْ من شقِّ الباب كعادتها كلَّ ليلة، حين تجد المِصباح الثانوي في غرفتي مُضاءً؛ ممَّا يعني بالنِّسبة إليها إشارةً خضراء تسمحُ لها بالعُبور إلى ضِفاف مملكتي، واقتحام خَلْوتي، والتطفُّل على جوِّ الوحدة الذي ألفتُه؛ لتطرحَ دفعةً واحدةً كلَّ ما جمعتْه من أخبارٍ طوالَ النَّهار.
وككلِّ ليلة بادرتْ بطرحِ سؤالها المعتاد: ألا تملِّين الكتاب؟!
طرحَتْه كمن يستغني بعبارةٍ ما عن كلمة "مساء الخير"، ولم تنتظر جوابًا، بل أخذتْ تُحدِّثني عن حفل الزِّفاف الأُسطوري الذي حضرتْه، وبأنَّني خسرتُ نِصفَ عمري؛ كوني اعتذرتُ عن مرافقتها إلى هناك.
اتشحتُ بالصمتِ فلم أُخْبِرها بأنَّني كسبتُ أعماراً فوقَ عمري برفقة كتاب!
كانت على وجهها بقايا أصباغٍ ملوَّنة، تراوحتْ بيْن الأحمر والأسود والذَّهبي، وكأنها تحكي بصمتٍ عن فرحٍ أُسْرِج خيولُه، ورحل عنها للتوِّ، تاركًا آثارَ حوافر الخيل تسردُ ملحمةً من البهجة الزائفة لا تحدُث كلَّ يوم.
تركتُها مستمتعةً بسَرْد تفاصيل فستان الزفاف، ومِشْية العروس، ولون الكعكة، وغرقتُ في عالمي الخاص.
كنتُ في حالة انتشاءٍ تامٍّ، أقفزُ بيْن السُّطور وفوقها، أو أجاريها فأَسيرُ مع الحروف وإيقاعاتها، أُسجِّل على الهامش الأبيض ما أستنبِطُه من أفكار، أو أشاكسُ الكاتبَ أحيانًا بتعقيبٍ مخالِف، فيُخيَّلُ إليَّ أنه يقرأ ويتجهَّم، ويقفُ موقفَ الدِّفاع، أو يتقبَّله برحابة.
سألتني أُختي - لتتأكَّدَ من وجودي المعنوي معها - سؤالَها البريء، محاولة العثور منِّي على جواب، كغريقٍ في لُجج البحر، طوْقُ نجاته كلمة، وخادعتُ نفسي، وخادعتها، فألقيتُ الكلمة لأتملص من إلحاحها فقط... "أَجَل، معكِ حقٌّ"!!
ابتسمت، وتابعت حكايتَها، وقبلَ أن أعلنَ تذمُّري، وأعتذر لانشغالي لحظةَ نهايتها، انتقلت على الفَوْر إلى حَدثٍ آخر مهمٍّ، بكل براعة في السّرد، وتحدثت عن خمس ساعات متواصِلة قضتْها أمامَ الحاسوب ترجو زميلتَها نجلاء أن تُصالِحَها، عبثًا دون جدوى.
حاولتُ التدخُّلَ في الأمر...
أشعرُ بوخزاتٍ في ضميري، كلَّما ذكرتْ لي ذلك الكمَّ من الوقت المُهْدَر من أجل صراع انتهى دون نتيجة!
أخبرتها أنَّ الصُّلح ينقضي بسلام وابتسام، وأنَّه بإمكانها إنهاءُ مذاكرة الدروس المستعصية عليها في فترة زمنية مقارِبة لتلك، فأجابت بضجر: "لا يمكنني الدِّراسة وأنا أفكِّر فيها"!
واعتراني شيءٌ مِن حزن، ممزوج بقليل مِن يأس...
عدتُ إلى صفحاتِ كتابي معتذرةً عن تقصيرٍ غير مقصود، وتراءى لي الكاتبُ عابسَ الوجه، وقد استخففتُ بأفكاره المطروحة، والتفتُّ عن جهدٍ في التأليف قضى فيه أعوامًا طوالاً مِن حياته...
تمتمتُ له باعتذار، وتمتمتْ هي بعبارات الأسَف والحزن، وكثير من الألَم والتَّوجُّع.
التفت إليها فزعة، وسألتها - وقد طار صوابي -: "هل أصابكِ مكروه"؟!
ترقرقتْ دمعةٌ في عينها، وقالت: "سيموتُ دون شكٍّ، سأموتُ أنا إن فعل"!!
خفق قلبي سريعًا، أوكدتُ أسمع صوتَ كلِّ خفقة، وتساءلتُ في جزع: "مَن يكون"؟!
خشيتُ أن تذكر لي اسمَ أحدٍ من العائلة، قد حَدَث له مكروه وأنا في عُزلتي... لكنها أنقذتني سريعًا إذ نادتني من القِمَّة الشَّاهقة التي تصاعدتْ إليها أوهامي؛ لتجعلني أرتطمُ بحقيقة أكثر ترويعاً من توقع خبر مفجع!
"إنه شادي، الممثِّل! لقد أصيب في هذه الحلقة بحادِث، ونُقل إلى المستشفى، أخْشى أن يموت".
أخفيتُ غيظي، وطمأنتها قائلة "ما دام هو البطل، فلن يموت، أؤكدُ لكِ ذلك"!!
في أحد تجاويف عَقلي سمعتُ نقرًا على كلمة "بطَل"، وشرع أحدُ المؤرخين يسردُ قصصاً موجزة، عن أهمِّ الأبطال الذين غيَّروا مجرى التاريخ على مرِّ العصور، عرض القصص بحيادٍ وتشويقٍ في آنٍ معًا، حتى كدتُ ألمحهم بهيئاتهم وأزيائهم، برُجولتهم وأسلحتهم، بمقولاتهم التي ظلَّت نبراسًا للأُمم على جيلاً بعد جيل، رأيتُ بعين عقلي انتصاراتهم التي حرَّكت عجلةَ التَّاريخ للأمام خطوةً، وبقي في داخلي يتردَّد صوتُ الانكسار ذاته، وحطام آمالٍ بتُّ أبكي على أطلالها في صفحاتِ الكُتب.
انتشلتُ نفسي مِن رَماد أحلام تحترق، وحاولتُ للمرَّة الألْف جذْبَها من عالَمِها إلى مملكتي، تخيَّرتُ كتابًا شائقًا، وكُلِّي أملٌ أن أتحدَّى به كلَّ المغريات في عالَمها، وبحبٍّ رحتُ ألتمسُ منها موافقةً ما... "تعالي نقرأ معًا، سيعجبكِ حتمًا هذا الكتاب...".
هذه المرَّة اكتشفتُ أنَّها هي التي لا تسمعني، وأنَّ فجوةً تتسع باستمرار بيْن عالَميَنا المتناقضَين.
طبعتْ على جبيني قُبلةَ وُدٍّ، ومضت، وهي تردِّد أنَّها استمتعت كثيرًا بحديثنا معًا هذه الليلة!
هرعتُ إلى مكتبتي، وأخذتُ أستشيرُ كلَّ الحكماء والعلماء، والمفكِّرين والخبراء، الذين قدَّموا نِتاجَ عقولهم لي هديَّة، وللإنسانيَّة، على طبق مرصَّع بالأحجار الكريمة، حاولتُ أن فأقطف مِن خبراتهم وتجارِبهم، وحصاد عقولهم ثمرةَ الأمل، ومضيتُ إليها في ليلةٍ جديدة؛ لأقتحمَ عليها مملكتها الخاصَّة، عازمةً على توقيع عقْد مصالحة وتبادل فكريٍّ بيْن المملكتين.
طرقتُ بابَ غرفتها، وولجتُ إلى هناك مطمئنة، وجدتها قد أطفأتِ النُّور، فابتسمتُ في العتمة، ولم أكترث لتجاهلها، فقد زودتني جولتي بزيت مصباح يضيء ممالك القلوب، لا يمكن له مهما احترق أن ينفد...