بسم الله الرحمن الرحيم
الموازنة في تقدير مصالح الأمم والشعوب فيما بينها، والموازنة في الحديث عن تعامل شعبٍ بعينه مع رئيس يحكمه بالظلم والقتل، وإدراك مخارج تلك المجتمعات من ثقوب الفرج الدقيقة، مضايق صعبة، وهي من أكثر ما يجعل القلم يتوقف عن تخصيص مجتمع بعينه بحديث، خشية أن تزل أقدام شعوب مع زلة الأقلام، فتراق دماؤها بإراقة مداد أقلام تُشرِّع لها خلاصاً متوهماً، وأخطر ما تكون الأقلام والأقدام في هذه المواقف إذا صيرتها سكرة عقل مظلوم مكبوت رأى النصر في الشرق فيريد تنزيله في الغرب أو في بلد بعيد عنه، وهذا التنزيل امتزج بهمٍّ أثقل الكاتب في بلده فأراد أن يجمعه مع قهر غيره الذي لم ير منه عُشره، أو ربما جهل الحال والمآل.
وقد تكون مفاتيح الفرج في بلد أبين من بلد آخر يعيش الناس فيه الظلم أكثر وأشد، فيجب على الأقدام والأقلام أن تنتصر للمظلوم الذي أراد نصرة وخرج عن صبره بقوة، وهذه النصرة من الواجبات الإلهية على القادر وأقل ذلك ببيان تأييدهم بذكر سنن الله الشرعية وسننه الكونية وأن الله معهم، وأنهم على الحق، وقد يضطرب العامة ومن يجهل السياسة الشرعية من العلماء في فهم هذه الموازين، في التفريق بين المتشابهات في الظاهر عنده، والمختلفات في الباطن عند العلماء العارفين.
وقد يُنصح مظلوم بالصبر على ظلم شديد نزل به، لتمكن الظالم الذي لا يُرفع ظلمه إلا بتحقق ظلم مماثل أو يفوق، وقد يُنصح مظلوم وقع عليه ظلم أقل من الأول بالانتصار ممن ظلمه لضعف الظالم وقدرة المظلوم، وهذا أمر لا يقوى على تقديره إلا من عرف الظلم والظالم والمظلوم، معرفة تقترن بعلم الوحيين، وخشية الخالق أكثر من خشية المخلوق، وهذا عزيز جداً في العلماء، ومعدوم في العامة.
ومع هذا فلا يُعفى أحد من العلماء من بيان المظالم للناس وخطرها، ووجوب رفعها عن المظلوم، وعاقبة الظالم، في العاجل أو الآجل.
وفي مثل هذه الأحوال كلها إذا قام المظلوم على الظالم المتمكن ولاحت قوة المظلوم وجب نصرته على من ظلمه، والسكوت عن نصرته التي يحتاج إليها شراكة في الظلم، ووجه من وجوه تعطيل حدود الله في الأرض، وهذا ما نراه اليوم في ليبيا.
وليبيا من نحو نصف قرن بلد يعيش أشد أنواع الظلم والأطر على الكفر من حاكم جمع مع الظلم في حق المجتمعات مالاً ودماً وعرضاً وحريةً؛ الظلم في منازعة الله في حقه والعبث في الشريعة وتدوين كلام مبتور مقلوب ينسبه إلى الله في كتاب يسميه (الكتاب الأخضر)، وهذا أعظم الظلم على الإطلاق قال تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}، وفيه شبه من بني إسرائيل واليهود منهم خاصة.
مع ما نراه من إراقة الدماء وإبعاد المصلحين الناصحين بألسنتهم المشفقين على المجتمع ودينه ودنياه وسجنهم.
وهو بلد يجب أن يُنصر على من استطاع نصرته من الرؤساء والإعلام والعامة وإظهار عذر أهله عند الله وعند الناس قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}.
وقال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} وقال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإنّ ذلك نصره».
ومن أظهر وجوه النصرة لإخواننا في ليبيا:
أولاً: إظهار حق المظلوم بالتظلم والانتصار ودفع الأذى عن نفسه بما لا يُفسد ما استطاع معه دماً أو مالاً أو ينتهك عرضاً.
ثانياً: بيان ظلم الظالم وصنوفه، ليعلم العالم البعيد عن الساحة الليبية حالهم مع الظلم وطول أمده، وجرأة الظالم على الخالق والمخلوق، وصبرهم عقودا عليه، فإن اتضاح ذلك للناس دعوة للعذر، وتثبيتاً للمظلوم أن ينتصر ويصبر ويثبت وأنه على الحق حياً وعلى الشهادة ميتاً إن صدق في نيته، ودعوة للمخذل أن يقف عن خذلانه.
وإن المشاهد للدماء التي تُراق بلا تمييز في ليبيا لا يملك إلا أن يقول: اللهم اسمع واشهد، وكن حسيب الظالم، واحكم بينه وبين المظلوم يا خير حاكم.