إعفائه من رئاسة الجمهورية وتحديد إقامته
.............................................
محمد نجيب لحظة خروجه من قصر الرئاسة بعد إقالته في 14 نوفمبر 1954انهزم محمد نجيب في معركة مارس 1954 والواقع أنها لم تكن خسارته فقط وإنما كانت خسارة لمسيرة الديمقراطية في وادي النيل, أصر نجيب علي الاستقالة لكن عبد الناصر عارض بشدة استقالة نجيب خشية أن تندلع مظاهرات مثلما حدث في فبراير 1954، ووافق محمد نجيب علي الاستمرار انقاذا للبلاد من حرب أهلية ومحاولة إتمام الوحدة مع السودان.
يوم 14 نوفمبر 1954 توجه محمد نجيب من بيته في شارع سعيد بحلمية الزيتون إلى مكتبه بقصر عابدين لاحظ عدم أداء ضباط البوليس الحربي التحية العسكرية، وعندما نزل من سيارته داخل القصر فوجئ بالصاغ حسين عرفة من البوليس الحربي ومعه ضابطان و١٠ جنود يحملون الرشاشات يحيطون به، فصرخ في وجه حسين عرفة طالباً منه الابتعاد حتي لا يتعرض جنوده للقتال مع جنود الحرس الجمهوري، فاستجاب له ضباط وجنود البوليس الحربي.
لاحظ نجيب وجود ضابطين من البوليس الحربي يتبعانه أثناء صعوده إلي مكتبه نهرهما فقالا له إن لديهما أوامر بالدخول من الأميرالاي حسن كمال، كبير الياوران، فاتصل هاتفياً بجمال عبدالناصر ليشرح له ما حدث، فأجابه عبدالناصر بأنه سيرسل عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة ليعالج الموقف بطريقته.
وجاءه عبد الحكيم عامر وقال له في خجل " أن مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئاسة الجمهورية فرد عليهم "أنا لا أستقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسئولا عن ضياع السودان أما أذا كان الأمر إقالة فمرحبا".. وأقسم اللواء عبد الحكيم عامر أن إقامته في فيلا زينب الوكيل لن تزيد عن بضعة أيام ليعود بعدها إلي بيته, لكنه لم يخرج من الفيلا طوال 30 عاما.
خرج محمد نجيب من مكتبه في هدوء وصمت حاملا المصحف مع حسن إبراهيم في سيارة إلي معتقل المرج. وحزن علي الطريقة التي خرج بها فلم تؤدي له التحية العسكرية ولم يطلق البروجي لتحيته، وقارن بين وداعه للملك فاروق الذي أطلق له 21 طلقة وبين طريقة وداعه.
فعندما وصل إلي فيلا زينب الوكيل بضاحية المرج بدأ يذوق من ألوان العذاب مما لا يستطيع أن يوصف, فقد سارع الضباط والعساكر بقطف ثمار البرتقال واليوسفي من الحديقه.. وحملوا من داخل الفيلا كل ما بها من أثاث وسجاجيد ولوحات وتحف وتركوها عارية الأرض والجدران, وكما صادروا أثاث فيلا زينب الوكيل صادروا أوراق اللواء نجيب وتحفه ونياشينه ونقوده التي كانت في بيته.. ومنعه تماماً من الخروج أو من مقابلة أياً من كان حتى عائلته.
وأقيمت حول الفيلا حراسة مشددة، كان علي من في البيت ألا يخرج منه من الغروب إلي الشروق، وكان عليهم أن يغلقوا النوافذ في عز الصيف تجنبا للصداع الذي يسببه الجنود، اعتاد الجنود أن يطلقوا الرصاص في منتصف الليل وفي الفجر، كانوا يؤخرون عربة نقل الأولاد إلي المدرسة فيصلون إليهم متأخرين ولا تصل العربة إليهم في المدرسة إلا بعد مدة طويلة من انصراف كل من المدرسة فيعودون إلي المنزل مرهقين غير قادرين علي المذاكرة.
كانت غرفته في فيلا المرج مهملة بها سرير متواضع يكاد يختفي من كثرة الكتب الموضوعة عليه، وكان يقضي معظم أوقاته في هذه الحجرة يداوم علي قراءة الكتب المختلفة في شتي أنواع العلوم، خاصة الطب والفلك والتاريخ، ويقول محمد نجيب: «هذا ما تبقي لي، فخلال الثلاثين سنة الماضية لم يكن أمامي إلا أن أصلي أو أقرأ القرآن أو أتصفح الكتب المختلفة».
أثناء العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 تم نقله من معتقل المرج إلي مدينة طما في سوهاج بصعيد مصر وقيل إنه كان من المقرر قتله في حاله دخول الإنجليز القاهرة وذلك بعد أن سرت إشاعه قوية تقول إن إنجلترا ستسقط بعض جنود المظلات علي فيلا زينب الوكيل في المرج لاختطاف محمد نجيب وإعادة فرضه رئيسا للجمهورية من جديد بدلا من الرئيس جمال عبدالناصر ولكن بعد فشل العدوان تم إعادته إلى معتقل المرج. وجري التنكيل به حتي إن أحد الحراس ضربه علي صدره في نفس مكان الإصابة التي تعرض لها في حرب 1948، كتب الرئيس نجيب عن ذلك في مذكراته: «يومها هانت علي الدنيا.. فقررت أن أضرب عن الطعام».
.........................................
محمد نجيب مع الرئيس الساداتوأثناء نكسة 1967 ارسل برقية لجمال عبدالناصر يطلب منه السماح له بالخروج في صفوف الجيش باسم مستعار الا انه لم يتلق أى رد منه. وظل علي هذا الحال حتي تم إطلاق سراحه بواسطة الرئيس السادات في عام 1974 عقب الإنتصار الذي تحقق في حرب اكتوبر 1973. ورغم هذا ظل السادات يتجاهله تماما كما تجاهله باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة.
....................................................
يقول محمد نجيب في مذكراته قال لي السادات : انت حر طليق !! لم أصدق نفسي هل أستطيع ان اخرج وادخل بلا حراسة هل استطيع ان اتكلم في التلفون بلا تصنيت هل استطيع ان استقبل الناس بلا رقيب !!
لم اصدق ذلك بسهولة.. فالسجين في حاجة لبعض الوقت ليتعود على سجنه، وفي حاجة لبعض الوقت ليعود إلى حريته. وانا لم اكن سجينا عاديا كنت سجينا يحصون انفاسه. ويتصنتون على كلماته ويزرعون الميكرفونات والعدسات في حجرة معيشته. وكنت اخشى ان اقترب من احد حتى لا يختفي. واتحاشى زيارة الاهل والاصدقاء حتى لا يتعكر صفو حياتهم. وابتعد عن الأماكن العامة حتى لا يلتف الناس حولي، فيذهبون وراء الشمس، ولكن بعد فترة وبالتدريج عدت إلى حريتي وعدت إلى الناس وعدت إلى الحياة العامة.
وياليتني ما عدت.. فالناس جميعا كان في حلقها مرارة من الهزيمة والاحتلال. وحديثهم كل شكوى وألم ويأس من طرد المحتل الإسرائيلي. وبجانب هذه الاحاسيس كانت هناك أنات ضحايا الثورة. الذين خرجوا من السجون والمعتقلات ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب.
وحتى الذين لم يدخلوا السجون ولم يجربوا المعتقلات، ولم يذوقوا التعذيب والهوان كانوا يشعرون بالخوف، ويتحسبون الخطى والكلمات. وعرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة. وعرفت ساعتها اي مستنقع القينا فيه الشعب المصري. فقد حريته.. فقد كرامته.. فقد ارضه.. وتضاعفت متاعبه.. المجاري طفحت.. المياة شحت.. الأزمات اشتعلت.. الاخلاق انعدمت.. والإنسان ضاع.
كانت سلوى محمد نجيب طوال سنوات الإقامة الجبرية في المرج تربية القطط والكلاب.. واعتبر القطط والكلاب أكثر وفاءا من البشر واحتفظ نجيب بصورة نادرة لكلبه ترقد علي جنبها وترضع منها قطة فقدت أمها, وهذه الصورة كما قال نجيب دليل علي أن الحيوانات أكثر ليونة ورقة في التخلص من شراستها من البشر. وحينما توفي أحد كلابه دفنه في الحديقة وكتب علي شاهد القبر : هنا يرقد أعز أصدقائي.
.........................................
محمد نجيب مع أحدى كلابهيقول محمد نجيب
لقد كان هؤلاء الأصدقاء الأوفياء سلوى وحدتي في سنوات الوحدة تلك السنوات المرة التي وصلت فيها درجة الإفتراء إلى حد إشاعة خبر وفاتي وقد سمعت هذا الخبر بأذني من إذاعات العالم.. وقرأته بعيني في كتاب ضباط الجيش في السياسه والمجتمع والذي وضعه كاتب إسرائيلي يدعى اليزير بيير (أن محمد نجيب توفي عام 1966 !!!). فقد اكتوي من الثورة بينما لم يرتكب الرجل جريمة يستحق عليها أن يعامل بمثل هذه المعاملة, وكثيرا ما كان يردد : ماذا جنيت لكي يفعلوا بي كل هذا؟.
بتاريخ 21 أبريل 1983 أمر الرئيس حسني مبارك تخصيص فيلا في حي القبة بمنطقة قصر القبة بالقاهرة لإقامة محمد نجيب، بعدما صار مهدداً بالطرد من قصر زينب الوكيل نتيجة لحكم المحكمة لمصلحة ورثتها الذين كانوا يطالبون بالقصر، وهو القصر الذي عاش فيه لمدة 29 سنة منها 17 سنة وهو معتقل.
وقال وقتها : "إلى أين أذهب بعد 30 سنة لم أخرج فيها إلى الحياة.. ليس لدي معارف أو أحد يهتم بي. أنا أعيش هنا وحدي بعد أن مات اثنان من أولادي ولم يبق غير واحد منهم، فإلى أين اذهب"؟؟