مفارقة كبيرة تحتاج إلى تأمل.. فالمدينة الّتي كانت السبب في وصول الملازم معمر القذافي إلى سُدّة الحكم في ليبيا، ليقبع على هذا الكرسي أكثر من أربعة عقودٍ متتالية، يكون فيها هو الحاكم الأوحد بلا منازع لليبيا، ومشتركًا في حكم بضعة دول إفريقيَّة أخرى أطلقت عليه ملك ملوك إفريقيا؛ إنها مدينة "بنغازي"، التي كانت الشرارة الأولى في انطلاق ثورة الفاتح في سبتمبر 1969، كانت هي نفس المدينة الّتي شهدت أول الاحتجاجات الحالية المطالبة بسقوط النظام الليبي، وكان شباب بنغازي أول من تمرَّد على الكتاب الأخضر الذي وضعه القذافي لإدارة البلاد، وقاموا بتحطيم هياكله المنتشرة في الميادين العامة.
لم تنته المفارقة بعدُ، فالمفارقة الأكبر أن بنغازي هي موطن البطل المجاهد عمر المختار، الذي حارب أعتى الجيوش الأوروبيَّة وأشدَّها قسوة، بمجموعة من الرجال المجاهدين وبأسلحة بدائيَّة، واستطاع في النهاية أن ينتصر عليها بالرغم من إعدامه، الذي فجَّر ثورة ضد الاحتلال لم يشهدْها التاريخ من قبل، فبنغازي كانت عبر التاريخ تصنع الرجال وتبنى الأمجاد، وكما يُقال في ليبيا "مباركة أنت بين المدن يا بنغازي".
موعد مع الرصاص
وكأنّ الليبيين دائمًا على موعد مع الرصاص، فما تنقله لنا شاشات التلفاز والقنوات الفضائيَّة حيًّا الآن، بأن قوات القذافي تقوم برمي المتظاهرين العزَّل بالرصاص الحي، كأنه صورة طبق الأصل مما حدث في يناير سنة 1964 ميلاديَّة، حين قامت مجموعة من الطلاب في مدينة بنغازي بتنظيم مظاهرة كان الهدف منها إعلان التأييد لمؤتمر قمَّة عربيَّة منعقدة بالقاهرة، لكن الهتافات في المظاهرة تحولت إلى انتقاد لغياب الملك إدريس السنوسي وتكليف ولي عهده الأمير الحسن بحضور المؤتمر، وهو ما اعتبره الطلاب خيانة للإجماع العربي، وحاول رجال الأمن تفريق المظاهرة ثم تصاعد التوتر وانتشر، واستخدمت قوات الأمن الرصاص الحي لقمع المتظاهرين الذين سقط منهم ثلاثة قتلى وعدد من الجرحى، ودامت تلك المظاهرات بضعة أيام، ثم خبت، لكن ما خبأتْه الأيام لم يكن ليعرفه أحد؛ فبعد أعوام قليلة على تلك الحادثة تشكَّلت حركة الضباط الوحدويين الأحرار في الجيش الليبي بقيادة الملازم أول معمر القذافي، وقامت بالزحف على مدينة بنغازي لتحتل مبنى الإذاعة، وتحاصر القصر الملكي بقيادة الضابط الخويلدي محمد الحميدي، وتستولي على السلطة في الأول من سبتمبر 1969، بعد أن سارع ولي العهد وممثل الملك بالتنازل عن الحكم.
تاريخ من الاحتجاجات
عاشت بنغازي في ظلّ حكم القذافي الممتد لأكثر من أربعة عقود، فترة طويلة من الهدوء النسبي، ما لبث أن تحول إلى توتر شديد، بسبب أزمة سجن بوسليم، حيث قامت قوات خاصة في يونيو 1996 باقتحام سجن بوسليم، وفتحت نيران مدفعيتها على سجناءه العزل، وقتلت منهم أكثر من 1200 سجينًا، وذلك بسبب انتماء هؤلاء السجناء لجماعات إسلامية!!
كانت تلك المذبحة المروعة بمثابة مطرقة شديدة وقوية نزلت على قلوب أهالي بنغازي، وهي ما لم يستطع الزمان فيها دمل الجراح أو حتى مداوتها، وما زاد من الاحتقان، أن تلك المذبحة ظلَّت حديثًا ممنوعًا في ليبيا حتى عام 2009، إلى أن أعلن سيف الإسلام نجل القذافي أنّ مسئولي الشرطة وسجن بوسليم سيُقدمون للمحاكمة بسبب تلك الحادثة.
ومنذ ذلك التاريخ ينظم أهالي الضحايا في بنغازي وقفات احتجاجية ومظاهرات أسبوعية للمطالبة بتحقيق عادل ومستقلّ في القضية وتحقيق مطالبهم، متحملين في سبيل ذلك ما يتعرَّضون له من ضرب ومنع وتضييق، لدرجة أنّ أسر فقيرة منهم كانت تنظّم اعتصامات للمطالبة بتحسين ظروفها المعيشيَّة، إلا أنّ السلطات الليبيَّة كانت تقابل ذلك بمنتهى العنف والقسوة.
وبعد كل هذا التاريخ "البنغازي"، الملتهب بالحماسة والثورة وعدم الرضا بالذلّ والهوان، منذ المجاهد عمر المختار، ومرورًا بثورة الفاتح من سبتمبر، وأزمة سجن بوسليم، ووصولًا إلى اندلاع الثورة التونسيَّة ونجاحها في خلع الرئيس زين العابدين بن علي، وما تلاها من ثورة شعبية مصرية عارمة نجحت هي الأخرى في خلع الرئيس المصري محمد حسني مبارك؛ كان لِزامًا على البنغازيين أن تكون الشرارة الأولى في الاحتجاجات الليبية الحالية 2011، نابعة من ترابهم، وبيد شبابهم الطاهر الذي تعود على رفض الظلم، بل وترعرع منذ نعومة أظافره على سماع قصص الثائرين والمجاهدين.
وهذا ما حدث بالفعل، حيث خرجت الشرارة الأولى للاحتجاجات الشعبيَّة في 15 فبراير الجاري من بنغازي ذاتها، ومنذ ذلك الحين تصاعدت الاحتجاجات في المدينة ومدن عديدة بشرق البلاد للمطالبة بإسقاط نظام القذافي، لتعم البلاد ثورة شعبية عارمة لم تشهدْها ليبيا من قبل.. وكأن بنغازي تقول للعالم: كما كنت مركز وسبب صعود القذافي إلى سدة الحكم قبل أكثر من أربعة عقود؛ فسأكون اليوم سبب الإطاحة به وبنظامه؛ لا تتعجبوا إنها رأس الحربة في كل الثورات الليبيَّة، إنّها بنغازي..